سورة المائدة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} في الآية مسائل:
المسألة الأولى: يقال: وفى بالعهد وأوفى به، ومنه {والموفون بِعَهْدِهِمْ} [البقرة: 177] والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام، والعهد إلزام، والعقد التزام على سبيل الأحكام، ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان، فلهذا قال: {عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله أوفوا بتلك العقود، وإنما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق.
واعلم أنه تعالى تارة يسمي هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية، وكما في قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] وتارة عهوداً، قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وقال: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان} [النحل: 91] وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمر بأداء التكاليف فعلاً وتركاً.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا، وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل يصح.
حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح، بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد، ونذر ذبح الولد، وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد، وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد، والآتي بالمركب يكون آتياً بكل واحد من مفرديه، فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزماً للصوم والذبح.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} ولقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ولقوله: {يُوفُونَ بالنذر} [الإنسان: 7] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ف بنذرك». أقصى ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعاً في يوم العيد، وفي خصوص كون الذبح واقعاً في الولد، إلاّ أن العام بعد التخصيص حجة.
وحجة الشافعي رحمه الله: أن هذا نذر في المعصية فيكون لغواً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نذر في معصية الله».
المسألة الثالثة: قال أبو حنيفة رحمه الله: خيار المجلس غير ثابت، وقال الشافعي رحمه الله: ثابت، حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ، لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمه الله: الجمع بين الطلقات حرام، وقال الشافعي رحمه الله: ليس بحرام، حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235] فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل، والشافعي رحمه الله خصص هذا العموم بالقياس، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يرحم.
قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام}.
اعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم: استبهم الأمر على فلان ءذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: {والانعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء} إلى قوله: {والخيل والبغال والحمير} [النحل: 5 8] ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير.
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما فَهُمْ لَهَا مالكون وذللناها لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71، 72] وقال: {وَمِنَ الانعام حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} إلى قوله: {ثمانية أزواج مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} وإلى قوله: {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 142 144] قال الواحدي رحمه الله: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء.
إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ الآية سؤالات: الأول: أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله: {بَهِيمَةُ الانعام} يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان وهو مستدرك.
الثاني: أنه تعالى لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاماً بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية.
الثالث: أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه؟
والجواب عن السؤال الأول من وجهين:
الأول: أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى {مِنْ} كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه.
الثاني: أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:
الأول: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة.
الثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذا من بهيمة الأنعام.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه.
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم.
المسألة الثانية: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله.
قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلاّ أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح.
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها.
وهذا كالمكابرة في الضروريات، وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض.
وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح.
وقال أصحابنا: إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال بعضهم: قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} مجملل؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلابد من إضمار فعل، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة، إلاّ أن قوله تعالى: {والانعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء ومنافع وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] دل على أن المراد بقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} ألحق به نوعين من الاستثناء: الأول: قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً أيضاً، إلاّ أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هده الآية وهو قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] ووجه هذا أن قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبيّن الله تعالى أنها إن كانت ميتة، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة.
النوع الثاني: من الاستثناء قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها، فعرفنا أن ما كان منها صيداً، فإنه حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيداً فإنه حلال في الحالين جميعاً والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما، يقال: أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم، كما يقال: أجنب فهو مجنب وجنب، ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب.
قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} [المائدة: 65].
وأعلم أنا إذا قلنا: أحرم الرجل فله معنيان: الأول: هذا، والثاني: أنه دخل الحرم فقوله: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} يشتمل على الوجهين، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرماً بالحج أو العمرة، وهو قول الفقهاء.
المسألة الثالثة: أعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن الصيد حرام على المحرم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} فإن {إِذَا} للشرط، والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، إلا أنه تعالى بيّن في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ متاعا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] فصارت هذه الآية بياناً لتلك الآيات المطلقة.
المسألة الرابعة: انتصب {غَيْرِ} على الحال من قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} كما تقول: أحل لكم الطعام غير معتدين فيه.
قال الفرّاء: هو مثل قولك: أحل لك الشيء لا مفرطاً فيه ولا متعدياً، والمعنى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذا كنتم محرمين.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، فلو قال قائل: ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال: أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصالح.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا آمين البيت الحرام}.
اعلم أنه تعالى: لما حرم الصيد على المحرم في الآية الأولى أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى فقال: {يُرِيدُ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله}.
وأعلم أن الشعائر جمع، والأكثرون على أنها جمع شعيرة.
وقال ابن فارس: واحدها شعارة، والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة، والمشعرة المعلمة، والأشعار الأعلام، وكل شيء أشعر فقد أعلم، وكل شيء جعل علماً على شيء أن علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة، فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنهت معلمة بعلامات دالة على كونها هدياً. واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله، وفيه قولان: الأول: قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم، وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين، ويقرب منه قول الحسن: شعائر الله دين الله.
والثاني: أن المراد منه شيء خاص من التكاليف، وعلى هذا القول فذكروا وجوهاً: الأول: المراد لا تحلوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد.
والثاني: قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} الثالث: قال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما، فأنزل الله تعالى: لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتمام.
الرابع: قال بعضهم: الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى، وهو قول أبي عبيدة قال: ويدل عليه قوله تعالى: {والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله} [الحج: 36] وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثم عطف عليها الهدى، والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه.
ثم قال تعالى: {وَلاَ الشهر الحرام} أي لا تحلو الشهر الحرام بالقتال فيه.
واعلم أن الشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] فقيل: هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فقوله: {وَلاَ الشهر الحرام} يجوز أن يكون إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس، ويجوز أن يكون المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هده الصفة.
ثم قال تعالى: {وَلاَ الهدى} قال الواحدي: الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، واحدها هدية بتسكين الدال، ويقال أيضاً هدية، وجمعها هدى.
قال الشاعر:
حلفت برب مكة والمصلى *** وأعناق الهدى مقلدات
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {هَدْياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95] وقوله: {والهدى مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].
ثم قال تعالى: {وَلاَ القلائد} والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي مشهورة. وفي التفسير وجوه:
الأول: المراد منه الهدى ذوات القلائد، وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله: {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] كأنه قيل: والقلائد منها خصوصاً الثاني: أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها، كما قال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها.
الثالث: قال بعضهم: كانت العرب في الجاهلية مواظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم، فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه، إلا أن يكون مشعراً بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم، أو محرماً بعمرة إلى البيت، فحينئذٍ لا يتعرض له، فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى.
ثم قال: {وَلاَ آمينَ البيت الحرام} أي قوماً قاصدين المسجد الحرام، وقرأ عبد الله: ولا آمي البيت الحرام على الإضافة.
ثم قال تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حميد بن قيس الأعرج {تَبْتَغُونَ} بالتاء على خطاب المؤمنين.
المسألة الثانية: في تفسير الفضل والرضوان وجهان:
الأول: يبتغون فضلاً من ربهم بالتجارة المباحة لهم في حجهم، كقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} [البقرة: 198] قالوا: نزلت في تجاراتهم أيام الموسم، والمعنى: لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم، فابتغاء الفضل للدنيا، وابتغاء الرضوان للآخرة.
قال أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة.
والوجه الثاني: أن المراد بفضل الله الثواب، وبالرضوان أن يرضى عنهم، وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما، فيجوز أن يوصف بذلك بناءً على ظنه، قال تعالى: {وانظر إلى إلهك} [طه: 97] وقال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
المسألة الثالثة: اختلف الناس فقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، لأن قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام} يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام، وذلك منسوخ بقوله: {اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] قوله: {وَلاَ آمين البيتالحرام} يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [البقرة: 28] وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة.
وقال الشعبي: لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية.
وقال قوم آخرون من المفسرين: هذه الآية غير منسوخة، وهؤلاء لهم طريقان: الأول: أن الله تعالى أمرنا في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين، والدليل عليه أول الآية وآخرها، أما أول الآية فهو قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار، وأما آخر الآية فهو قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا} وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر.
الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} وفي مسائل:
المسألة الأولى: قريء: وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل، وقريء بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء.
المسألة الثانية: هذه الآية متعلقة بقوله: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام، فإذا زال الاحرام وجب أن يزول المنع.
المسألة الثالثة: ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد هاهنا إلا الإباحة. وكذا في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10] ونظيره قول القائل: لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها، فإذا أديت فادخلها، أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها، وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر هاهنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: هذا معطوف على قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} إلى قوله: {وَلاَ آمين البيت الحرام} يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به. وليس للناس أن يعين بعضهم بعضاً على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه، لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضاً على ما فيه البر والتقوى، فهذا هو المقصود في الآية.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف {جَرَمَ} يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد، وتارة إلى إثنين، تقول: جرم ذنباً نحو كسبه، وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه، ويقال: أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنباً، وعليه قراءة عبد الله {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين.
والثاني: أن تعتدوا، والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.
المسألة الثالثة: الشنآن البغض، يقال: شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ.
ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها، ويقال: رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان، ويقال شنآن بغير صرف، وفعلان قد جاء وصفاً وقد جاء مصدراً.
المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى، والباقون بالفتح.
قالوا: والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان، وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفاً.
قال الواحدي: ومما جاء مصدراً قولهم: لويته حقه ليانا، وشنان في قول أبي عبيدة. وأنشد للأحوص:
وإن عاب فيه ذو الشنان وفندا ***
فقوله: ذو الشنان على التخفيف كقولهم: إني ظمان، وفلان ظمان، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها.
المسألة الخامسة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {إن صَدُّوكُمْ} بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف، يعني لأن صدوكم.
قال محمد بن جرير الطبري: وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية، وكان هذا الصد متقدماً لا محالة على نزول هذه الآية.
ثم قال تعالى: {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ} والمراد منه التهديد والوعيد، يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئاً من محارمه إن الله شديد العقاب، لا يطيق أحد عقابه.


{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}
قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام}.
اعلم أنه تعالى قال في أول السورة {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1] ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم، فهاهنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم، وهي أحد عشر نوعاً: الأول: الميتة: وكانوا يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله.
وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جداً، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة.
والثاني: الدم: قال صاحب الكشاف كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، فالله تعالى حرم ذلك عليهم.
والثالث: لحم الخنزير، قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي، فلابد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية، وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان.
الرابع: ما أهل لغير الله به، والإهلال رفع الصوت، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به، ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد، وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللآت والعزى فحرم الله تعالى ذلك.
والخامس: المنخنقة، يقال: خنقه فاختنق، والخنق والاختناق انعصار الحلق.
واعلم أن المنخنقة على وجوه: منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، ومنها ما يخنق بحبل الصائد، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام.
وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه.
والسادس: الموقوذة، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال: وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت، ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات، وهي أيضاً في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فإنها ماتت ولم يسل دمها.
السابع: المتردية، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك.
قال تعالى: {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} [الليل: 11] أي وقع في النار، ويقال: فلان تردى من السطح، فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت، وهذا أيضاً من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم.
والثامن: النطيحة، وهي المنطوحة إلى أن ماتت، وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما، وهذا أيضاً داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم.
وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل.
فإن قيل: لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة، كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل.
قلنا: إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف، تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة، والتاسع: قوله: {وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ ذَكَّيْتُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: السبع: اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها، مثل الأسد وما دونه، ويجوز التخفيف في سبع فيقال: سبع وسبعة، وفي رواية عن أبي عمرو: السبع بسكون الباء، وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع.
المسألة الثانية: قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي، فحرمه الله تعالى. وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له، وإنما الحكم للباقي.
المسألة الثالثة: أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه، ومنه الذكاء في السن، وقيل: جري المذكيات غلاب، أي جري المسنات التي قد أسنت، وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن، ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: الاستثناء المذكور في قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فيه أقوال: الأول: أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله: {والمنخنقة} إلى قوله: {وَمَا أَكَلَ السبع} وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة، فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عيناً تطرف أو ذنباً يتحرك أو رجلاً تركض فاذبح فإنه حلال، فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال، فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه.
والقول الثاني: أن هذا الاستثناء مختص بقوله: {وَمَا أَكَلَ السبع}.
والقول الثالث: أنه استثناء منقطع كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال.
والقول الرابع: أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات، يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال. وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعاً أيضاً.
العاشر: من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: النصب يحتمل أن يكون جمعاً وأن يكون واحداً، فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه: الأول: أن واحده نصاب، فقولنا: نصاب ونصب كقولنا: حمار وحمر.
الثاني: أن واحده النصب، فقولنا نصب ونصب كقولنا: سقف وسقف ورهن ورهن، وهو قول ابن الأنباري.
والثالث: أن واحدة النصبة.
قال الليث: النصب جمع النصبة، وهي علامة تنصب للقوم، أما إن قلنا: أن النصب واحد فجمعه أنصاب، قفولنا: نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب.
قال الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال:
ولا النصب المنصوب لا تنسكنه *** لعاقبة والله ربك فاعبدا
المسألة الثانية: من الناس من قال: النصب هي الأوثان، وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وذلك هو الذبح على اسم الأثان، ومن حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه.
وقال ابن جريج: النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها، فقال المسلمون: يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكره، فأنزل الله تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا} [الحج: 37].
واعلم أن {مَا} في قوله: {وَمَا ذُبِحَ} في محل الرفع لأنه عطف على قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} إلى قوله: {وَمَا أَكَلَ السبع}.
واعلم أن قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} فيه وجهان:
أحدهما: وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب، والثاني: وما ذبح للنصب، و(اللام) و(على) يتعاقبان، قال تعالى: {فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 91] أي فسلام عليك منهم، وقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي فعليها.
النوع الحادي عشر: قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} قال القفال رحمه الله: ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقاً لما كانوا فعلوه في المطاعم، وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وكانوا قد كتبوا على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، وتركوا بعضها خالياً عن الكتابة، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح.
الثاني: قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهى عنه، والأزلام قداح الميسر، والقول الأول اختيار الجمهور.
المسألة الثانية: الأزلام القداح واحدها زلم، ذكره الأخفش.
وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت. ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفاً قليل العلائق، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته، وما أحسن ما زلم سهمه، أي سواه، ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها.
ثم قال تعالى: {ذلكم فِسْقٌ} وفيه وجهان:
الأول: أن يكون راجعاً إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصراً عليه.
والثاني: أن يكون راجعاً إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم، فمن خالف فيه راداً على الله تعالى كفر.
فإن قيل: على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقاً؟ أليس أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل، وهذا أيضاً من جملة الفأل فلم صار فسقاً؟
قلنا: قال الواحدي: إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام لقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] وقال: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة».
ولقائل أن يقول: لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلباً لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم التعبير غيباً أو كفراً لأنه طلب للغيب، ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفراً لأنه طلب للغيب، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفاراً، ومعلوم أن ذلك كله باطل، وأيضاً فالآيات إنما وردت في العلم، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علماً وإنما يستفيد من ذلك ظناً ضعيفاً، فلم يكن ذلك داخلاً تحت هذه الآيات.
وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقاً وكفراً، وهذا القول عندي أولى وأقرب.
قوله تعالى: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون}.
اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرّمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله: {ذلكم فِسْقٌ} والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال، ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان، فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم، فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم، وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فيه قولان: الأول: أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم، ونظيره قوله: كنت بالأمس شاباً واليوم قد صرت شيخاً، ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه.
والقول الثاني: أن المراد به يوم نزول هذه الآية، وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء.
المسألة الثانية: قوله: {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فيه قولان: الأول: يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة.
والثاني: يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم، وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان، وهو قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين، ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وهذا القول أولى.
المسألة الثالثة: قال قوم: الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف، قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار، وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها.
ثم قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية سؤال وهو أن قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يقتضي أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك، وذلك يوجب أن الدين الذي كان صلى الله عليه وسلم مواظباً عليه أكثر عمره كان ناقصاً، وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة.
واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوهاً: الأول: أن المراد من قوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم، وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهراً كلياً: اليوم كمل ملكنا، وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصاً.
الثاني: أن المراد: إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام، وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز.
الثالث: وهو الذي ذكره القفال وهو المختار: أن الدين ما كان ناقصاً، البتة، بل كان أبداً كاملاً، يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبداً كان كاملاً، إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
المسألة الثانية: قال نفاة القياس: دلت الآية على أن القياس باطل، وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملاً، وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثاً، وإن كان على خلافه كان باطلاً.
أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس، فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها، والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول، ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بياناً لكل الأحكام، وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالاً للدين.
قال نفاة القياس: الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص إما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة، فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته، فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة، إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحداً، والمخالف يكون مستحقاً للعقاب، وينقض قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك، وإن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكيناً لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين الله أم لا، وهل هو الحكم الذي حكم به الله أم لا، ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالاً للدين، بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات، قال مثبتو القياس: إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالاً للدين، ويكون كل مكلف قاطعاً بأنه عامل بحكم الله فزال السؤال.
المسألة الثالثة: قال أصحابنا: هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة، وذلك لأنه تعالى بيّن أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين، وأكد ذلك بقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون} فلو كانت إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منصوصاً عليها من قبل الله تعالى وقبل رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيساً من ذلك بمقتضى هذه الآية، فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل لم يجر لهذا النص ذكر، ولا ظهر منه خبر ولا أثر، علمنا أن ادعاء هذا النص كذب، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كان منصوصاً عليه بالإمامة.
المسألة الرابعة: قال أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين يوماً، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل ألبتة، وكان ذلك جارياً مجرى أخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً، ومما يؤكد ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جداً وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي الله عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال: هذه الآية تدل على قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال، فكان ذلك دليلاً على كمال علم الصديق حيث وقف من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره.
المسألة الخامسة: قال أصحابنا: دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وإيجاده، والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضاً منه.
واعلم أنا سواء قلنا: الدين عبارة عن العمل، أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة، أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر.
وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه، ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز.
ثم قال تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام.
واعلم أن هذه الآية أيضاً دالة على أن خالق الإيمان هو الله تعالى، وذلك لأنا نقول: الدين الذي هو الإسلام نعمة، وكل نعمة فمن الله، فيلزم أن يكون دين الإسلام من الله.
إنما قلنا: إن الإسلام نعمة لوجهين:
الأول: الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم: الحمد لله على نعمة الإسلام.
والوجه الثاني: أنه تعالى قال في هذه الآية {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} ذكر لفظ النعمة مبهمة، والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم، أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ.
قلنا: أما الأول فقد عرف بقوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فحمل هذه الآية عليه أيضاً يكون تكريراً.
وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماماً للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة، فثبت أن دين الإسلام نعمة.
وإذا ثبت هذا فنقول: كل نعمة فهي من الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه وإيجاده.
ثم قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند الله تعالى ويؤكده قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}.
ثم قال تعالى: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى، يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار، ومن قوله: {ذلكم فِسْقٌ} إلى هاهنا اعتراض وقع في البين، والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى، ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة، والمخمصة المجاعة.
قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن. يقال: رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات، وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير متعمد، وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182] أي ميلاً، فقوله غير {مُتَجَانِفٍ} أي غير مائل وغير منحرف، ويجوز أن ينتصب {غَيْرِ} بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف، ويجوز أن ينصب بقوله: {اضطر} ويكون المقدر متأخراً على معنى: فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن الله غفور رحيم، ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذاً، وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصياً بسفره، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [البقرة: 173] وقوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله، ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8